د.عبد العزيز بنار
ناقد وكاتب
الحياة ليست رحيمة كما نتصور، والوجوه التي ألفت وجودها في عالم لا يؤمن إلا بالسيطرة والإهانة قد غادرت مواقعها واختفت وراء خطابات متناقضةّ. هكذا تحول العالم مع انتشار وباء كورونا إلى عالم بلا وجهة، بلا قيادات، ودول عظمى أضحت بلا مزايا. كل الأنظمة وقفت على رمل سائب بدون عتاد لمواجهة عدو قادم من كل الجهات.
كثير من الوجوه والأسماء غادرت عالمنا، اكتفت بإدانة العالم في صمت وهي تتجرع موتا باردا برئات مختنقة. لم تكن ايطاليا البلد الوحيد الذي تحمل تفاهة الأنظمة الرأسمالية، وتوجهات النيوليبيرالية المتوحشة، وفي أغوار النفس البشرية حط فيديو المواطنة الإيطالية، كما حط طائر البراري على غصن يابس، وهي تدين رؤساء دول تخلت عن دعم بلدها للمرور بها إلى شطآن الأمن والأمان وتحرير المواطن الإيطالي من ذعر الخطر القادم من جهات غير معلومة. كان الفيديو شكرا بطعم السخرية المكلومة، وتنقيصا من الأنظمة التي تظاهرت لسنوات بامتلاكها الدواء وحلول لكل معضلات العصر والانسان، فكان الإنسان، وكانت ايطاليا هي ذلك الجزء الملعون من الذات الأوروبية أو المقبرة التي لم يقدم أحد على زيارتها، ثم هوت مدريد ولندن وباريس وواشنطن وبكين وتساقط القطيع فيها مكسر الأرجل.
لم تعد هناك قبلة يقصدها الانسان، حتى الله أغلق دور العبادة، والأطباء والأطر والمؤسسات والفقراء والبوارج المدمرة تعطلت، واستشرى الموت فصار فكرة مخيفة بأرقام مدهشة أمام المطارات المغلقة، وفي قلوب المواطنين العالقين على الحدود.
هكذا تغير وجه العالم في أعين الطلاب والمتعلمين والأساتذة والمثقفين، ونجحت دول في أن تتحول الى دول مواطنة ومتضامنة، بينما وجدت دول أخرى نفسها وحيدة تخوض معركة كبرى على حواف الموت، ونقص المناعة، وشبح الشيخوخة أو الفقر بعد أن تعطلت كل مرافق الحياة ومصادر العيش، وأضحى الكائن البشري محاصرا في أقفاص ومقيدا بقوانين تفرخ كل يوم، تقيد الحركة وتدفع بالحجر الصحي وحالة الطوارئ نحو الإقصاء التام لأي إحساس بالأمان خارج البيوت والتجمعات العامة. لقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي النافذة الوحيدة التي يطل منها الإنسان تفرجا، بهلع واستغراب وترقب، على تفاهة العالم ومفارقاته أمام هشاشة التقدم العلمي وصلابة الميتافيزيقا.
لم يكن في وطننا العربي ما يوحد قلوب الناس بعدما توالى مسلسل السقوط، وتهاوت المدن العريقة في الشرق وشمال إفريقيا وشرقها. لم يجد العقل العربي والإسلامي منقذا يعيد في ضوئه النظر إلى فضاءاته الخاصة، ومصادر تفكيره وإشكالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.
أمام هذا الفراغ، وتغير إحداثيات المناطق والدول عربيا وغربيا، جاءت كرونا كي تنظم العالم على خرائط الخوف والموت والإدانة والتسابق نحو تسجيل قصب السبق في إيجاد أول تلقيح ومضاد للفيروس، بل جعلت المخاوف الحقيقية والكاذبة في العلاقات الدولية وحقوق الإنسان وحق الأقليات في العيش والتهافت الرأسمالي على الشرق أمورا لا أهمية لها .
في كل الأصقاع والمنافي، تأخذك الدهشة الى عالم تراه لأول مرة عاجزا عن تقديم حل للأطفال والطلبة والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة، صار العالم موحشا، تحولت فيه بعض الأنظمة الى قراصنة في الفضاء لمعدات طبية، ومساعدات إنسانية، وكأن الكل شعر بيأس كبير قد يعجل بالقفز إلى الجحيم.
لقد صنعت الدول الغربية مآس وقسوة تجاوزت خسائرها ومخاوفها آثار الحربين الأولى والثانية، وبدا أن النيوليبرالية قد حفرت قبرها باتحاداتها وأحلافها، وبعمق الفردانية التي رسخت خيارات لا إنسانية وأنانية.. وكل المظاهر كشفت رغبة مفضوحة لهذه الأنظمة في الربح والمنفعة أكثر من رهانها على الإنسان، ولاحت في الأفق توجهات عالمية جديدة رأت في الصين وكوبا وبعض الدول الاشتراكية هي المؤهلة لإنقاذ العالم من خسارة فادحة، بعدما دخلت أمريكا وأروبا نفقا مظلما تم التخلي فيه عن الشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة في الصفوف الأولى للموت والخسارة، كما جاء في تصريح ترامب وأكدته دموع المواطنة الإسبانية التي حرم زوجها من الأوكسجين لإنقاذ شاب إسباني آخر، بل تعمق هذا التوجه الموغل في اللارحمة من خلال تحليلات تشومسكي وسلافوي جيجيك والإعلامي هاري فوكس وآخرون.
فعلا، لم تعد هناك وجهة آمنة يقصدها الإنسان بعد منتصف مارس، بعدما ضربت الجائحة السوق الحرة ونظام المعاملات المالية والتجارية ومستقبل الإنسانية، إذ تلاشت فكرة القرية الكونية أمام مقولة عزل المدن والدول والمناطق مما جعل التضامن بين الدول خيارا أمام المحك والاختبار والتجربة … وقدمت الدول جهودا كبيرة من أجل حماية الشركات والاقتصاد، واستمرار عمل بعض القطاعات باستغلال التكنولوجيا، والمقاربة الأمنية، وكأن كل الأنظمة قد آمنت بأنه” أمام الأزمة يصبح الكل اشتراكيا”.
قلبت الأقدار السرية اقتصاديات العالم، ومرغت كبريات الأنظمة الاستعمارية في حلبة العجزو الموت الذي يسخر من الاحياء وهم ينتظرون بذعر في طوابير الأسواق، والمستشفيات ، بل حتى في البيوت.
لم يعد هناك تحرك نحو مركز ما، والأطراف كلها تتحرك في كل اتجاه دون أن تبرح مكانها، والعرب أصبحوا ذلك الآخر الذي لا يجب تحاشيه، بل قد يحمل متعة ما، منفعة كانت مستبعدة، فظهرت في أمريكا واستراليا ودول أخرى وجوه علمية قادت فرق بحث من أجل التوصل إلى لقاح لهذا الوباء، هكذا صار الغرب يصدق كل شيء، وأصبح المواطن الغربي مهيأ لأداء أدوار التخريب والاعتصام والسرقة والاحتجاج والموت بعدما أسندت، ببرمجة، للإنسان العربي.
دول كانت منسية، ورفاق لم يكن لهم حظ في العالم الجديد، لكنهم من كوبا وصلوا عبر مطارات إيطاليا والصين، ووصلت معدات طبية من المغرب إلى أمريكا وإفريقيا.. الكل يترقب انبثاق فجر جديد أو مخلص جديد . ولا ريب أمام هذه الأزمة أن يخرج الحمقى باسم المهدي المنتظر، وأن يبشر الاشتراكيون بعودة التجربة الاشتراكية بعد أن تخلت الرأسمالية عما تبقى لها من أخلاق تظاهرت بها لاستنزاف الخليج وتفكيك الشرق الأوسط .
لقد كشفت لنا جائحة كورونا أن أفواج المهاجرين، ومئات الأدمغة المهاجرة، بإمكانهم المساهمة في تغيير وجه الحضارة والقيم نحو الأفضل، بإمكانهم خوض تحدي بشرى أمام الخوف الغربي الكبير. إن الذين يقيمون بالخارج ليسوا فقط مهددين للحضارة الغربية، بل منهم الأطباء والعلماء والطلبة والمهنيون وصانعو السلام ومبتكرو الحياة.
لقد أبانت الجائحة أن العدو هذه المرة ليس خارج أوروبا، بل كامن فيها ، وصار غربيا. وأن الصداقات الدولية الغربية لم تعد ممكنة أمام الأوليغاركيات التي اشرأبت أعناقها في الهيمنة بعد الحرب الباردة. إن الحياة وهم، وليست رحيمة في المدن الغربية كما كانت تصورها السينما والقنوات وشاشات التلفزيون .
عطفا على ما سبق، مكنتنا دروس الحجر والوباء من اختبار الحياة في ظل حرب استخدمت فيها الأوبئة واكتشاف طاقة كامنة فينا لم تقف عند حدود الخوف، بل تؤمن بالحياة عبر استغلال التكنولوجيا والعالم الرقمي، بوصفه ضرورة، في مجال التعليم والقضاء وقطاعات أخرى، في مقابل آثار أخرى اجتماعية ونفسية ستجعلنا نشعر دوما بأن الحياة غالية يجب أن نعيشها بتضامن، وأن الحجر الموجه سلوك سيساعدنا على تجاوز سلبيات الحياة غير الطبيعية التي عشناها ونتعايش معها اليوم.