محمد عصام//
اقتربت الشمس من المغيب بدوار البحارة بجماعة مولاي عبد الله إقليم الجديدة، في هذا الدوار يستيقظ قاطنوه على صوت تجار الحبوب الهلوسة وينامون على صراخ المدمنون، يحولون الليل من سكينة يغمض من خلالها الساكنة جفونهم إلى صراخ يؤرق نومهم ليلا بطعم هلوسة “القرقوبي”.
“أوف الليل طاح ها صداع غادي يبدأ” لم يكد ينهي “عبد الغفور” جملته حتى نشب شجار بين ثلاثة شبان بالقرب منه، بدا أحدهم من عينيه الحمراوتين الملفوفتين بالسواد، وكذا كلماته الساخطة وكأنه يتمنى أن لا يطل القمر على منازل دوار البحارة، فالرجال والنساء ذووا الثلاثين والأربعين سنة يستيقظون في الخامسة صباحا ليلتحقون بعملهم، وعليه أن يناموا في التاسعة ليلا غير أن السنوات التي قضوها في هذا الدوار جعلتهم يقتنعوا أن قضاء ليلة هادئة هي عملة نادرة في هذا المكان.
دوار البحارة والفوضى العارمة
استمر “عبد الغفور” في السير نحو منزله دون أن ينجذب للشجار الذي نشب بالقرب منه، بائعو الحشيش ينتشرون كالطاعون في المكان، وأصوات أجهزة التلفاز تتقاطع مع صوت امرأة تنادي على طفلها وتختلط بصوت شجار في مقدمة الدرب.
“حنا عايشين عيشة الذبانة في البطانة” تقول السيدة (خ) في الثانية والخمسين من عمرها والتي تسكن الدوار المذكور منذ ثلاثة عشر سنة. تدقق النظر في الحركة الذؤوبة وتضيف وهي تدندن برأسها “ياه أوليدي لم نعد نحس بطعم النوم كباقي عباد الله”.
ليس العمال أو كبار السن من يتشاءمون من حلول الليل، فالأطفال كذلك لهم رأيهم في الموضوع: “أنا أنام بالقرب من نافذة تطل على الخارج، دائما انهض خائفا في الرابعة صباحا يقول “عادل” في العاشرة من عمره ويتبعه “نزار” في الثامنة من عمره بالقول: “ونحن لا نستطيع أن نراجع دروسنا بشكل عادي كما يفعله أطفال في سننا بأحياء هادئة. إذا كان “عادل ونزار” مازالا يتابعون دراستهما فالعديد من أصدقائهم يهاجرون مقاعد الدرس مبكرا، ومنهم من يجد الطريق معبدة ليصبح بائعا أو مدمنا في المستقبل.
في الخامسة مساء تبدأ بجانب “البوصط ديال الضو” المتواجد في أكبر ساحة بدوار البحارة عملية شراء حبوب الهلوسة وابتلاعها بوثيرة جهنمية الإيقاع، “شي حبة، شي جوج، شي سمطة عفاك، تتولى الطلبات على امتداد ثلاث ساعات. يأخذ واحد من المدمنين حبة وبحركة سريعة يضعها في مقدمة اللسان، يغلق فمه ويحركها تذوب. “الذوابة” هكذا يلقبونها ـ يقول أحد المدنين ـ فهي تجعلك تتكلم بطلاقة وتدفعك لقول أشياء وارتكاب أفعال لن تقوم بها لو كنت في وعيك.
“والله ما ينعس شي قرد هاد الليلة” انتفض “سعيد” من بين ثلاثة شبان يجلسون قرفصاء بجانب “البوسط ديال الضو” المتواجد في أكبر ساحة بدوار البحارة، وفجأة بعد أن انتهى صرخته تكلم شخص من وراء جدران بعض المنازل قائلا: “وسير خلينا نعسوا، راه حنا خدامين مع الخمسة ديال الصباح “الله يهديكم علينا، الواحد ما بقاش ينعس في خاطرو” وأنتما كونوا تحشموا” و”سير المقرقب الواحد يلوح حبة ولا جوج و يصحاب راسو راجل” توالت الجمل الساخطة من وراء الجدران، وبدل أن يدفع هذا الكلام “سعيد” إلى أن يبتلع لسانه، اشتد غضبه وأحس وكأنه مستهدف في شيء بداخله.” اللي بغا يدوي ميتخباش فحال المرا، اللي سميتو راجل يخرج عندي فاص فاص”.
دوار البحارة يبقى استثناء في إقليم الجديدة، إذ يُكْتَشَفُ أن “القرقوبي” يفتح شهية شبان ما بين السادسة عشرة والثلاثين سنة للعويل ككلاب ضالة ليلا وعائلات يجنون أرباحها نهارا وفي الليل عليهم تحمل تبعاتها.
جاب “سعيد” الدوار بكامله، الرأس مرفوع للأعلى وكلمات السخط تخرج تبعا وفجأة استل من إحدى جواربه سكينا، أزاح كم اليد اليسرى إلى الأعلى قليلا، وقبل أن يهوي على ذراعه هرع أصدقاؤه الثلاثة لصده، جلس قرفصاء، اليد اليمنى تقبض على “جوان” واليسرى يمسح بها “الكشكوشة” التى خرجت من بين شفيته بعدما يفوق نصف ساعة من الصراخ ويقول “وأخويا الله يعفو علينا من هاد البلية، سخونية الراس تترجع بالبرودة”.
القرقوبي وطقوس المدمنين عليه
“سعيد” مدمن على تناول الحبوب المهلوسة، وله حكاية مؤلمة مع “سخونية الراس”، ففي السنوات الأخيرة قضى بضعة أشهر حبسا بعد إن تبادل الضرب والجرح مع أحد الجيران وكاد في أحد أيام هذه السنة أن يمرر سكنيا على عنق صديق له وهو في حالة هذيان، تحت تأثير مفعول الحبوب يفقد التحكم في لجام لسانه، ينتقل رفقة الأصدقاء في الهلوسات يتحدثون عن الله والحلال والحرام، وعن بارونات المخدرات وعن المرشح الذي لم تطأ قدماه تراب دوار البحارة منذ أن ساندوه في حملته الانتخابية. وعندما يصلون للحديث عن ذكرياتهم، تنحبس أنفاسهم وتتوالى أمام أعينهم شريط أحلام كانوا يتمنون أن يتحقق في الواقع فصارت ذكرى…
يقول “مصطفى” في الثلاثين من عمره: “لا أعرف كيف تتمكن مني تلك الحبة اللعينة، أحس رغبة في أن أبكي، وأشكي همي وأقول أشياء كثيرة، كان مصطفى يحلم بأن يصبح دركيا نزيها، غير أن رياح الزمن حملته إلى أن يصبح مدمنا ضمن المدمنين الذين حولوا ليلهم هنا إلى زمن للشكوى، فواحد يشتكي من العيش “شي حاضي شي” والثاني ينتفض غضبا لأن محبوبته هجرته وثالث يعتبر عقليته لا تتناسب مع عقلية سكان البحارة “أنا بلاصتي مشي هنا، بحالي راهم لباس عليهم في أوربا”.
القرقوبي إلى متى ؟
“القرقوبي” أصبح جزاء من الحياة العادية في جل أحياء دوار البحارة، إذا أصبح السكان هنا ينامون على هلوسات مدمنيه ويستيقظون على صراع تجاره. وتأمل قاطنة هذا الدوار أن يصبح دوار البحارة بدون حبوب الهلوسة، وإلى أن يتحقق ذلك، يضرب كفا بكف حتى لا يبقى “القرقوبي” يزعجهم، ويدمر أجساد شبابهم الذين لم يجدوا مراكزا علاجية للإدمان تستمع لصراخهم.