محمد عصام//
رغم الفشل الذريع في سياسة التشغيل بجماعة مولاي عبد الله والمناطق المتاخمة لها، ورغم تعاظم حجم ودور المخطط والتوجه الرامي إلى إفشال تلك المشاريع التشغيلية، بقصد مقصود وكذب مرصود ووعد زائف مشهود، فإن المسؤولين هناك أصروا على فرض إتاوات أخرى على الساكنة بالمنطقة، من خلال عدم القيام بأي جهد ولو بحجم الذرة لإيقاف نزيف التلوث البيئي، فكان الأمر أشبه وأقرب لحرمان السكان من الحق وإغراقهم بدلا عن ذلك بالمرض..
إن كنت لا تعلم فهذه مناسبة لتعلم أن التلوث بمنطقة مولاي عبد الله والجرف الأصفر جاوز كل النسب وتعدى المسموح وفضح المسكوت عنه، الصارخ بأن السلطات ومنتخبين عاجزين عن إيقاف التلوث ومصدره، عجز مرده إلى عدم تفعيل القانون العقابي والزجري من جهة، وإلى ارتباط المؤسسات الصناعية بمنطقة الجرف الأصفر بمقراتها الأم بالبيضاء، ومن جهة أخرى، خضوعها إداريا لها ومن تم إخراجها عن مناطق المس الإداري من طرف سلطات منطقة الجرف الأصفر ومولاي عبد الله، ومن جهة أخرى إلى تغليب أهل المخزن لرؤية النفع الاقتصادي الاستثماري الصناعي عن الرؤية الاجتماعية والبشرية، متضادين في ذلك مع تعليمات ملك البلاد ورمز المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ذلك المشروع الملهم والخلاق، الذي جعل الإنسان محور السياسات وهدفها، فأين أنتم يا مسؤولي ومنتخبي تلك المنطقة من تعليمات ملك المغرب؟ أم أن طمعكم دفعكم لعصيان مستتر، هدفه المال ثم المال، أما الإنسان ففي خبر كان، وعلى رأي مجموعة ناس الغيوان: “اللي تْهَرَّسْ رَا الكْرَارَصْ”..
وفاق حال التلوث البيئي كل حال، بين إفرازات الأمونياك والكبريت وبقايا الفحم الحجري وغيرها من المواد الخطيرة يشمها الأنف مستشعرا بتلك الحاسة جانبا من خطورتها، تاركا أمر الضرر الأكبر لجسده، الذي تنخره بفعل تلك الإفرازات، مخلفة وراءها عددا من الأضرار، منها هشاشة العظام وتساقط الأسنان وسرطان الدم وتساقط الشعر وقصر نمو الجسد وانتفاخ البطن وحساسية الجلد والعيون..
واستفحال هذا الحال، أضحى أمرا واقعا فرض نفسه، أو بالأحرى فرضه التلوث البيئي، بل أن حجم التقارير الطبية شاهدة على أن عددا مهولا من الساكنة أصيبت من جراء تلك الإفرازات بعدد من الأمراض، وعلى رأسها سرطان الدم وهشاشة العظام وتساقط الشعر، ومن تلك الحالات من فطن إلى مرضه ولجأ إلى المؤسسات الاستشفائية بالمنطقة، ليعاني من تلوث من نوع آخر، لم يفلح إلا في مضاعفة ورفع حدة مرضه الغير المأمول أصلا شفاؤه، في ظل حيرة العالم وعجزه الكوني في معالجة السرطان
ويستمر التلوث ينهش والضحايا يصرخون
لم يقف التلوث وأثره عند حدود الإفراز الجاري أو المستنشق، بل تعداه إلى تلوث آخر مختلف، تتجلى صورته في تواجد خطوط كهرباء عالية التوثر بتلك المنطقة، الأمر الذي تزداد خطورته بفعل عيش الساكنة بمحاذاة تلك الخطوط وخاصة الأطفال، إذا أظهرت الإحصائيات تعرض أطفال جوار الخطوط العالية للكهرباء، لاحتمالات أمراض سرطان الدم، وعلى رأس تلك الدراسات، دراسة بريطانية، أقرت بأن الأطفال الذين يولدون في مناطق لا تتعدى بعدها سوى 200 متر من الأسلاك الكهربائية عالية التوثر، هم أقرب وأكثر عرضة للإصابات السرطانية الدموية بنسبة 69 بالمائة، ونحن هنا نقول لرواد هاته الدراسة، أن أطفال تلك المنطقة يعيشون ملتصقين بالجرف الأصفر، وأن الجرف الأصفر ظل يتوسع ويتمدد إلى أن أصبح جار سكن لهم، وأن الأطفال لو كانوا بعيدين عن الجرف الأصفر بـ:200 متر، كما تحكي تلك الدراسة البريطانية، لربما لم يسموا بأثر فقد يصبحون في منآى عن التلوث بحكم عيشهم وسط رحابه منذ النشأة..
ما لحق بالبشر لحق بالدواب والبقر والغنم وراح ينخر أجسادهم، فأصبح لحمها بعد الذبح برائحة الجرف الأصفر وأصبح أكلها مسهما بقدر معين في تذوق أثر التلوث مذاقه، بل إن الأرض جامدة المرئية، كانت في الماضي أرضا فلاحية رعوية، ولكنه التلوث الذي ينخر كل الأجساد والخرائط وينهي كل تقدم أو نمو، أنهى حضرتها وحولها لصحاري قاحلة جرداء وصفراء..
ومن التلوث ما قتل
ورصدا للظاهرة، وإن كان هذا المسمى لا يليق بالتلوث لتوصيف الظاهرة بالعارض المؤقت المبتدأ بزمان والمنتهي به، ولكون ما يقع بمنطقة الجرف الأصفر ومولاي عبد الله ليس ظاهرة، ولكن قدر أحمق الخطى على رأي عبد حليم حفيظ. فإن جريدة “لسان الشعب” فتحت أبوابها ونوافذها لإشعار الناس بمعالم وملامح هذا الوباء، وخشيتها ألا يمتد تلوث الجرف الأصفر لمدينة الجديدة، حتى يظل قلم الجريدة خطا أحمرا، يعلن عن حجم هذا التلوث ويدعو ضمائر الأحياء إلى تقديم الإنسان على الآلة والصناعة، حتى لا يأتي زمان تقوى فيه الآلة، ويمحي الإنسان، وما أكثر الشعوب التي قدست هذا، واغتنت من ثمراته، لكنها فقدت أدمية مواطنيها..
لكـــل جريمـــــة فاعـــــل
ويبقى السؤال المؤرق، مَنِ المتهم؟ من قتل المنطقة؟ هل هم الإداريون والمنتخبون أم المؤسسات الصناعية أم أن التهمة ستقيد ضد المجهول؟
لأن الجواب مفضوح ومشهور بشهرة التلوث وأثاره، فإن الجميع مشترك فيه، بين سكوت المسؤول وجشع الصناعي ونوم المجتمع المدني وانشغال أهل الحكم، والضحية هنا هو المجهول وليس المتهم، مادام من يصاب بالتلوث ويمرض يقبر في صمت مريب، ولا يستقيل بعده وزير، ولا تقال مع خروج روحه حكومة أو يسجن جشع طماع أو مسؤول جبان..
فيا أهل “اجلييك” و”صوناصيد” وأهل المكتب الشريف للفوسفاط… فصناعتكم وإن كانت تساهم في تقدم بلدنا، فإنها لن تكون أهم منا، فنحن رجال بلدنا وقطار استمراره، وما كان عليكم إلا أن تحترموا قوانين البيئة ومعايير التصنيع البيئي وتجنبوا المنطقة كوارثا عمت البلاد والعباد..